الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته ومن والاه واتبع هداه إلى يوم الدين. وبعد: فإنَّ واقعنا المرَّ الأليم الذي نتجرع فيه غصص التفريط في شعائر الله يفرض علينا أن نتبصر بمواقع الزلل منا في فسحة الإمهال قبل ان تنقضي الآجال ونصير إلى الزوال فتكون الحسرة والوبال , وقد وجدت نفسي وبعضَ المسلمين لا يكاد يسلم لنا أسبوع أو شهر من تغيب فاضح بلا عذر شرعي عن جماعة المسلمين في صلاة الفجر و وبعضنا هداه الله لا تشهد له الأرض بوطأة قدمٍ ذهاباً للمسجد في هذه الفريضة -عياذا بالله- حتى أصبحت الصورة العامة في مساجد المسلمين تنبئ الناظر أن هذا الفرض أوجب وآكد في حق من انحنت ظهورهم واشتعلت لحاهم وروسهم شيباً فهم أكثر رواده المساجد في هذه الساعة ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.! فأين شبابنا عن صلاة الفجر .؟ إنهم وللأسف -إلا من رحم الله- ظالمون لأنفسهم يبيت أحدهم يبارز الله بمحارمه في ساعة التنزل الإلهي لا يستحي من الله يتراقص ويتمايل وينتهك الأعراض ويصول ويجول وكأن إنعام الله عليه بالشباب والفراغ من الشواغل والسلامة من العلل لا يُشكَرُ الله عليه إلا بهذا حتى إذا طلع النهار انقلب على وجهه حتى يعلف مما كتب الله من طعام يزيد به بنيته لتأكله النار -إن لم يتداركه الله برحمته- فكيف تنتصر أمةٌ هم شبابها الريُّ والشبع واللعب والتكاثر..؟ ومن شبابنا من يسهر حتى يأذن الفجر بالطلوع وينام ويمنيه الشيطان الرجيم بالاستيقاظ , وهيهات هيهات , ولا يشعر إلا وقد ودعته صلاة الفجر وداعاً لا لقاء بعده أبداً إلا بين يدي الله سبحانه وتعالى يحاسب عن تقاعسه وتصامم أذنه عن داعي ربه وعندها تكون الحسرة والندم ويعض على أصابعه من شدة الألم ,بينما لو كان على موعد إقلاع رحلةٍ أو تقديمٍ لوظيفة أو استقبال ضيف عزيز لما لذَّ له منامٌ, فلم كانت محاب الله ومراضيه أهون علينا من هذه الأمور.؟ يقول الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي -المدرس بالحرم النبوي الشريف- حفظه الله: في شرح سنن الترمذي (بَاب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ فِي الْجَمَاعَةِ) يقول-عليه الصلاة والسلام- : (( بشر المشّائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة )) : قوله : (( في الظلم )) جمع ظلمة ، والمراد بذلك : ظلمة الليل في أول الليل في صلاة العشاء ، وظلمة آخر الليل حينما تكون صلاة الفجر ، فدل على اختصاص هاتين الصلاتين بهذه الفضيلة المذكورة . وقوله-عليه الصلاة والسلام- : (( بالنور التام يوم القيامة )) : النور ورد عن النبي أن الحسنات والطاعات تكون نوراً للمؤمن ، فهي نورٌ للمؤمن في الدنيا ونورٌ له في قبره ونورٌ له في حشره ونشره بين يدي ربه ، فأمّا كونها نوراً على الإطلاق فإن النبي قال كما في الصحيح : (( الصلاة نور )) قال العلماء : إن النبي أخبر أن الصلاة نور ، فهي نورٌ على الإطلاق ، ويشمل ذلك نور الدنيا والآخرة ؛ لأن قوله : (( نور )) نكرة والنكرة تفيد العموم ولذلك ترى المصلين وجوههم مشرقة مضيئة بخلاف من يترك الصلاة-نسأل الله السلامة والعافية- فعلى وجوههم قترة وعليها ظلمة المعاصي-نسأل الله السلامة والعافية- ، وأمّا كون القبر ينور بالطاعة فيدل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي أنه دخل على أبي سلمة وأرضاه- وقد فاضت روحه إلى ربه ومولاه ، وقد شخص ببصره وعيناه فأغمض-صلوات الله وسلامه عليه- عينيه وقال : (( إن البصر يتبع الروح )) ثم سمع الصياح في داخل البيت فقال-عليه الصلاة والسلام- : (( لا تقولوا إلا خيراً فإن الملائكة يؤمّنون على ما تقولون )) ، ثم قال-عليه الصلاة والسلام- : (( اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين وأفسح له في قبره ونوّر له فيه )) : فأخبر-صلوات الله وسلامه عليه- بأن القبور تنور ويكون نورها على قدر الطاعات والخير والاستقامة من العبد ؛ لكن الحديث الذي معنا أخبر فيه النبي بنورٍ خاص وهو النور يوم القيامة : { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فهذا النور يكون في عرصات يوم القيامة ، فإما أن يكون نوراً على الصراط إذا اجتازه المؤمن فإنه يكون له النور على قدر العمل فمن كان نوره عظيماً مرَّ كالبرق ، ومن كان نوره دون ذلك كان كالريح المرسلة ، أو كأجاود الخيل ، و من كان قليل الخير والطاعات أطفئ نوره وأضئ له إذا أُطفئ له كادت كلاليب النار أن تتخطفه فناجي من النار أو مخدوش ، فعلى قدر الخير والاستقامة يكون النور ، وقال بعض العلماء : إن النور يكون في الحشر قبل الصراط فالناس يوم القيامة إذا حشروا ونشروا بين يدي الله جبار السماوات والأرض وعرضوا فإنه تكون للقيامة أحوال وعرصات ومواقف مختلفات متباينات فتارةً يكون النور وتكون الظلمة فيحشر الله المطيعين والعاصين ، فأما المطيع فإنه يتلألأ وجهه بنور الطاعة والخير والاستقامة ، وأما من عصى الله فإن وجوههم تكون عليها قترة-نسأل الله السلامة والعافية- : { وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} . وقوله-عليه الصلاة والسلام- : (( بالنور التام يوم القيامة )) : فيه دليل على فضل الصلوات عموماً وصلاة الفجر والعشاء ، وأن الموفق السعيد يحرص على حصول هذا الخير والفضل ، قال بعض العلماء-رحمهم الله- : إن هذه الفضيلة المذكورة في هذا الحديث الشريف لا تكون إلا بالنية الخالصة الصادقة التي يراد فيها وجه الله سبحانه وتعالى فإذا وفق الله العبد وأراد أن يتم له النور رزقه الحرص على هاتين الصلاتين خاصة صلاة الفجر ، وبشائر القبول والتوفيق للموفقين أن تجده بمجرد صلاته للعشاء يحمل هم القيام لصلاة الفجر قد جعل الله الآخرة أكبر همه ومبلغ علمه وغاية رغبته وسؤله لا يحمل هم القيام لمصالحه الدنيوية ؛ ولكن الآخرة خير وأبقى ومن هنا يحمل هم القيام لشهود هذه الصلاة حتى إن بعض الصالحين إذا وفق لصلاة العشاء أكثر من الدعاء أن يوفقه الله لشهود صلاة الفجر ، ثم يأخذ بالأسباب المعينة على شهودها لينال هذا الفضل العظيم ، فينام مبكراً حتى إذا سمع داعي الله إلى الصلاة قام من فراشه مجيباً ذلك الداعي بكل همة ونشاط فلا يقوم وهو كسول وفيه الخمول ولكن يقوم بنفس أبية صادقة في طلب رحمة الله ومرضاة الله عز وجل ، يستشعر أن الصلاة تشفع له في لقاء الله ونور له بين يدي الله فعندها يهب قوي النفس مرتاح البال منشرح الصدر حتى إذا مضى إلى بيوت الله آثر أن يمشي بقدميه مع قدرته على الركوب ، يستشعر أن الله يسمعه ويراه فهو في ظلام الليل وكونه في شدة الظلمة قلبه مليءٌ بالإيمان بالله عز وجل أن الله مطلع على خروجه ، وأن الله عالم بحركاته وسكناته فيتملق ربه بصالح العمل يذكره ويشكره ويسأله المزيد من فضله ولفضل الخروج في هذا الوقت إلى بيوت الله وشهود الفضائل في مساجد الله فهذا الوقت وقت النور والخير ففي الحديث الصحيح عن ابن عباس-رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج إلى صلاة الفجر قال : (( اللهم اجعل في قلبي نوراً ، وفي سمعي نوراً ، وفي بصري نوراً ، وعن يميني نوراً ، وعن شمالي نوراً ، ومن أمامي نوراً ، ومن خلفي نوراً ، ومن فوقي نوراً ، ومن تحتي نوراً ، وأعظم لي نوراً )) فلا إله إلا الله ما أفضلها من طاعة وأجلها فتلك هي الساعات التي تُشحذ فيها همم المؤمنين والمؤمنات فيخرجون من بيوتهم بقلوب مطمئنة وصدور منشرحة ونفوس زاكية مرضية راضية ، ولذلك إذا أراد الله بالعبد التوفيق وفقه لشهود هذا الخير العظيم ، فإذا صلى الصلاة ووقف بين يدي الله عز وجل أتم للصلاة ركوعها وخشوعها ، فلو كان في أشد التعب والنصب فإنه يقبل على الله قلباً وقالباً يستشعر الآيات والعظات كأنه في أتمِّ ما يكون من الراحة والهناء ، فإذا أراد الله أن يتمم نعمته وأن يبارك له في خيره وبره ورحمته وفقه للجلوس إلى طلوع الشمس فجلست تلك النفس الطيبة والروح الزاكية تذكر ربها وتـثني على خالقها لا يستشعر أن له فضلاً على الله وإنما الفضل كل الفضل لله ، وكأن لسان حاله يقول : الحمد لله الذي هدانا لهذا يتصور كم من مريض يتمنّى خروجه وشهوده ، ويتصور كم من محروم يتمنّى أن يكون معه في مسجده وصفه ، ويتذكر من حُرم هذا الخير العظيم ، فيقول : اللهم لك الحمد أن اخترتني ووفقتني فإذا وفق لهذا الفضل العظيم خرج من بيت الله-جل وعلا- وقد أرضا ربه واطمأن قلبه وأصاب الخير العظيم ففتح الله في وجهه أبواب الخير ويسر له الرزق وبارك له في يومه وأهله وولده وأصبح يرى بركة ذلك الخير والطاعة في جميع أحواله وشؤونه ، فالقلوب تحبه وتجله ؛ لأن العمل الصالح يوجب محبة الناس والأنس بالعبد وهيبته وإكرامه وإجلاله ، والعكس بالعكس-نسأل الله السلامة والعافية- ، فإذا نادى منادي الله على المحروم تسلطت عليه النفس التي تأمر بالسوء تسلطت عليه نفس أمّارةٌ بالسوء وشيطان مريد فقال : انتظر فما زلت في التعب والنصب لم تقم الصلاة فلا تعجل فلعلك أن تدرك الإمام حتى إذا قارب وقت الإقامة خذله عدو الله فغفت عيناه عن فريضة الله ، ولم يستشعر إلا والإمام قد سلم من الصلاة فودعته صلاة الفجر وداعاً لا لقاء بعده أبداً إلا بين يدي الله سبحانه وتعالى يحاسب عن تقاعسه وتصامم أذنه عن داعي ربه وعندها تكون الحسرة والندم ويعض على أصابعه من شدة الألم ؛ ولكن ولات حين ساعة مندم يقول : { يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} . -فنسأل الله العظيم ، رب العرش الكريم ، أن يلهمنا فعل الخيرات ، وأن يعيننا على إقامة الصلوات ، اللهم ارزقنا خشوعها ، والقيام بحقوقها ، واجعلها شفيعة لنا بين يديك ، يا أرحم الراحمين